القائمة الرئيسية

الصفحات

نظريات عدم الإكتمال لجودل - عندما تلتقي الفلسفة بالرياضيات

 نظريات عدم الإكتمال لجودل

نظريات عدم الإكتمال لجودل





في سنة 1931، نُشر مقال في مجلة Monatshefte für Mathematik. تم نشره بواسطة شاب متخصص في علم المنطق ويبلغ من العمر 25 عاما، كورت جودل. إحتوى هذا المقال على نظريتين ستغيّران نظرتنا للمبادئ الأساسية لعلم الرياضيات (إضافة إلى نظرية الفوضى). إنهما مبرهنات عدم الإكتمال لجودل.


1. هل كل ماهو صحيح قابل للإثبات؟

يمضي الكثير من المتخصصين في الرياضيات وقتهم في إثبات براهين رياضية، وهذا ما تعلمناه بالفعل في الرياضيات. وذلك منذ المدرسة الإعدادية.


الفكرة من وراء ذلك هي أنه إذا تمكنا من إثبات شيء ما ، فهذا يعني أن هذا الشيء صحيح. فعلى سبيل المثال، يمكننا إثبات نظرية فيثاغورس في المثلث القائم وهي بالفعل نظرية صحيحة. فلا يوجد أي مثلث قائم لا تعمل عليه هذه النظرية. وهذا هو السبب في إجراء هذه الإثباتات الرياضية، وذلك للتأكد من أن تلك النظرية صحيحة.


من ناحية أخرى، إذا كان لديك شيء صحيح، فبالضرورة توجد طريقة لإثباته، ويمكن إثباته. وهذا لايعني أنه قد تم إيجاد الإثبات بالفعل، ولكننا متأكدين أنه لابد من وجود الإثبات على صحته في مكان ما.


لذلك فبالنسبة للمبتدئين في علم الرياضيات، وغير المتخصصين، كلمة "صحيح" و "يمكن إثباته" هما نفس الشيء : كل ما هو صحيح يمكن إثباته ، وكل ما يمكن إثباته هو صحيح.


لكن الأمر في الحقيقة ليس كذلك، وهذا ما تدور حوله نظريات عدم الإكتمال.


2. مبدأ البديهيات

مبدأ البديهيات


عندما نقوم بالبراهين الرياضية، نعتمد دائما في البداية على مجموعة من الحقائق المسلم بها و التي لا تتطلب عادة أي نوع من الإثباتات الرياضية، وتسمى هذه الحقائق ب"البديهيات".


وفي البراهين الرياضية ، نقوم بجمع هذه البديهيات مع بعضها باستخدام قواعد منطقية من أجل إنشاء تأكيدات جديدة وتسمى هذه التأكيدات الجديدة بالنظريات.


على سبيل المثال، تخيل أنك تملك 3 بديهيات وهي:

  • البديهية الأولى: كل البشر سيموتون
  • البديهية الثانية : كل الرجال بشر
  • البديهية الثالثة : راشد من الرجال
الآن من خلال الجمع بين البديهية الأولى والثانية يمكنني استنتاج أن:
  • كل الرجال سيموتون : النظرية الأولى
ومن خلال الجمع بين البديهية الأولى والثالثة يمكننا استنتاج أن:
  • راشد سيموت : النظرية الثانية

هذا المثال بسيط للغاية لذلك لا يمكننا إنشاء نظريات أكثر من هذا، لكن الفكرة وصلتك.

في البداية يكون لدينا مجموعة من البديهيات، ثم نجمع هذه البديهيات بشكل منطقي لإنشاء نظريات، وعن طريق الجمع بين هذه النظريات يمكننا إنشاء نظريات أخرى، وهكذا.

تشبه البديهيات قطع الليغو الأساسية والتي يمكننا استخدامها ودمجها كما نريد. وعندما نجمع قطع الليغو الأساسية، نحصل على هياكل معقدة قليلا وهي النظريات. والتي بدورها يمكن الجمع بينها لبناء هياكل أكثر تعقيدا.


يكمن جمال فكرة البديهيات في أنه عن طريق عدد محدود من البديهيات، يمكن للمرء أن يبني مجموعة كاملة من النظريات.


3. أنظمة البديهيات في الرياضيات

أنظمة البديهيات في الرياضيات



لكن الأمر يعتمد على نظام البديهيات الذي نستعمله في البداية. ففي الرياضيات، عليك أن تختار نظام البديهيات الذي ستستعمله بعناية ، وهناك العديد من أنواع البديهيات حسب قسم الرياضيات الذي تريد أن تدرسه. 


ففي هندسة المستويات مثلا، نستعمل بديهيات إقليدس. وفي مجال حساب الأعداد الصحيحة الطبيعية، نستعمل نظام بديهيات يسمى نظام بديهيات بيانو (Peano). وإذا كنا نريد دراسة الرياضيات الأكثر تعقيدا، فإننا نستخدم بشكل عام بديهيات نظرية المجموعات ، والتي تسمى بديهيات ZFC.


بشكل عام، عندما نقول أن شيئًا ما يمكن إثباته ، فهذا لا يعني أنه يمكن إثباته بشكل مطلق، بل يمكن إثباته اعتمادا على نظام معين من البديهيات.


ولهذا فإن كلمة "صحيح" و "يمكن إثباته" ليسا نفس الشيء. الصحيح يعني صحيح، أما "ما يمكن إثباته" فيعني أنه يعتمد على نظام بديهيات معين.


4. نظام البديهيات المثالي

في أوائل القرن العشرين ، تساءل عالم الرياضيات ديفيد هيلبرت عما إذا كان يوجد نظام مثالي من البديهيات في الرياضيات.


النظام المثالي من البديهيات، هو نظام من البديهيات يمكن من خلاله إثبات كل شيء صحيح، ودحض كل شيء خاطئ (دحض شيء ما يعني أنه يمكننا إثبات عكسه).


يسمى هذا النظام المثالي، نظاما كاملا. 

ولكن لابد من الحذر، فإذا جمعنا الكثير من البديهيات معا، فقد ننتهي بإثبات شيء ما وإثبات عكسه في وقت واحد. ففي المثال السابق (راشد) إذا أضفت البديهيات التالية:

  • البديهية الرابعة : راشد فيزيائي
  • البديهية الخامسة : الفيزيائيون لا يموتون
إذا جمعت البديهية الرابعة مع الخامسة فسنحصل على :
  • النظرية الثالثة: راشد لا يموت
وهذا ما يتعارض مع النظرية الثانية، بل عكسها تماما.

لذلك، فلا بد أن يكون نظام البديهيات الذي أستعمله متناسقا.


لذلك كانت فكرة هيلبرت عن إيجاد نظام مثالي للبديهيات هي أن يكون لديك نظام كامل من البديهيات، وأيضًا متناسق.


كان هيلبرت يأمل في أن ينجح في إثبات أننا يمكن أن نبني الرياضيات على أساس متين، مجموعة متكاملة من البديهيات. لكن لسوء الحظ، أثبت جودل أن هذا مستحيل.


5. نظريات عدم الإكتمال

5.1. نظرية جودل الأولى

تنص نظرية عدم الإكتمال الأولى ما يلي :

عند القيام بالحسابات الرياضية، أيا كان نظام البديهيات الذي نستخدمه ، ستكون هناك دائمًا تأكيدات لا يمكن إثباتها أو دحضها. ونقول أن هذه التأكيدات غيرُ قابلة للحسم. 

وهذا يثبت أستحالة إيجاد نظام مثالي من البديهيات.


فإذا أخذنا قطع الليغو كمثال، فهذا يعني أنه مهما كانت أشكال وألوان قطع الليغو الأساسية التي أملكها، فستوجد دائما هياكل لن أتمكن من بنائها.


لكن هل يوجد تأكيد حسابي صحيح ولكن لا يمكن إثباته؟ 


إليك مثال على ذلك: حدسية غولدباخ التي تنص على أن كل عدد صحيح زوجي أكبر أو مساو ل4 يمكن كتابته على شكل مجموع عددين أوليين.


هذه الحدسية لم يتمكن أحد من أثباتها، لكن تم إجراء حسابات على أعداد زوجية حتى العدد مليار مليار (1 و يلية 18 صفرا) وكلها يمكن كتابتها في شكل عددين أوليين، ولم نجد أي عدد زوجي مخالف لهذه الحدسية.

ولهذا يمكن أن تكون حدسية غولدباخ صحيحة لكن لايمكن إثباتها عن طريق أنظمة البديهيات التي لدينا الآن.


وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن طريقة البديهيات محدودة، حتى بالنسبة لشيء بسيط مثل حساب الأعداد الصحيحة. وأنه مهما كان نوع نظام البديهيات الذي نستخدمه، فلابد أن يكون إما غير مكتمل أو غير متناسق.

5.2. نظرية جودل الثانية

عندما نكون أمام نظام من البديهيات، نود أن نكون قادرين على تحديد ما إذا كان هذا النظام غير مكتمل أو غير متماسك. و بالطبع، نريد أن يكون هذا النظام على الاقل غير مكتمل (وهذا أهون الشرين) لأنه إذا كان غير متناسق، فعلينا ان نعيد النظر في أساس المنطق الرياضي كله.


ولكن لسوء الحظ، لقد نسف جودل هذا الأمل مرة أخرى.


أظهر جودل أن تماسك نظام البديهيات على وجه التحديد، هو أحد الافتراضات غير القابلة للحسم في نظام البديهيات هذا، أي لا يمكن إثباته ولايمكن نفيه. 

بطريقة أخرى يعني أنه لا يمكن للمرء أن يثبت أن نظاما معينا من البديهيات متماسك من خلال البقاء داخل هذا النظام - أي لا يمكن أثبات تماسك هذا النظام من خلال استعمال البديهيات التي داخل هذا النظام.


وهذه هي نظرية جودل الثانية لعدم الأكتمال. إذ تقول باختصار :
إذا كانت لديك نظرية معينة، فإن التماسك أو التناسق الذي يمكن أن يظهر داخل هذه النظرية، غير قابل للإثبات داخل هذه النظرية.




إذا أردنا أن نلخص هذا كله، فإننا يمكننا القول أن نظرية عدم الاكتمال الأولى لجودل تقول أن أي نظام من البديهيات الذي نستخدمه في العمليات الحسابية هو إما غير مكتمل أو غير متناسق.


أما النظرية الثانية فتقول أنه لا يمكن إثبات تناسق نظام معين عن طريق البقاء داخل هذا النظام.


يخبرنا جودل أنه في أحسن الأحوال ستكون هناك دائمًا أشياء غير واضحة ولايمكن إثباتها او نفيها - منطقة رمادية. وهذا يعني إما أن الرياضيات وعلم المنطق يقولان أشياء صحيحة ولكننا لن نتمكن أبدًا من إثباتها بالبديهيات التي لدينا. 


وإما، في أسوأ الأحوال، إذا كان نظامنا غير متناسق، هذا يعني أننا ربما بصدد إثبات أشياء خاطئة تمامًا، وأن كل شيء سينهار يومًا ما.


إن الفكرة التي تطرحها نظرية جودل هي قبل كل شيء فكرة مجردة وفلسفية ، لكن في الممارسة العملية، هي لا تمنع علماء الرياضيات من البحث.


لذلك في النهاية لا بد أن نقول شيئًا مهما للغاية، لقد تم إساءة استخدام هذه النظرية وتشويهها كثيرًا ، لجعلها تقول أشياء مثل "لا شيء مؤكد في هذا العالم"، أو "المعرفة البشرية محدودة إلى الأبد" ، أو "لا تخبرنا الرياضيات بأي شيء مؤكد".


هذا غير صحيح تماما، ضع في اعتبارك أن نظرية جودل تستعمل في سياق محدد للغاية: أنظمة معقدة من البديهيات، والتي تحتوي على الأقل على العمليات الحسابية.

تعليقات

التنقل السريع