القائمة الرئيسية

الصفحات

تاريخ الكهرباء - الجزء الأول : قبل القرن التاسع عشر

 الشرارة الأولى : بداية عصر جديد


تاريخ الكهرباء 1

ظهر أول استخدام للكهرباء، على ما يبدو مع بطارية بلاد الرافدين التي اكتشفت في انقاض مدينة أثرية. 

لكن الإكتشاف الحقيقي للكهرباء و الذي أدى الى ثورة العلم المعاصرة ظهر مع بدايات القرن الثامن عشر، و بعد العديد من الأكتشافات و التطوير وصلنا الى ما نحن عليه اليوم من تقدم تكنولوجي، ولا احد ينكر فضل الكهرباء في ذلك، بل هي العنصر الأساسي.


لذلك سنقدم لكم مجموعة من المقالات التي تحكي تاريخ الكهرباء و قصة اكتشافه و تطوره من البداية الى عصرنا الحالي.


1. آلة هوكسبي

تبدأ قصتنا داخل الجمعیة الملكیة بلندن، التي كان "فرانسیس هوكسبي" ذو ال 35 عاما آنذاك الزعیم المهیمن بها والذي قد فرض شخصیته عن طریق اللقاءات الأسبوعیة التي یقدم من خلالها أكثر التجارب دهشة لإبهار الحاضرین. 


في شهر نوفمبر من سنة 1705 أتى بكرة زجاجیة دوارة قد استطاع تفریغها من الهواء باستخدام آلة جدیدة وهي مضخة الهواء. وفي آلته التي تحمل كرته الغریبة هذه یساعده ذراع في تدویر هذه الأخيرة. بعد أن أطفأ فرانسیس جمیع الشموع بالغرفة وضع یده على الكرة. 


وبمجرد بدء عملیة دورانها بدأ ضوء خافت بالظهور، یرقص بين یدیه، وهج أزرق جمیل یتبع حدود یده ثم یتحول حول الكرة بأكملها. كان ذلك شیئا مدهشا لم یشاهده أحد من الحاضرین من قبل.

آلة هوكسبي

Credit: Wikimedia commons ©



لم یدرك هوكسبي الاهمیة الممیزة لتجربته إذ كان من الصعب في تلك الفترة -التي ینظر فیها إلى هذه الظواهر الطبیعیة كما لو كانت من صنع الرب- أن يجد أحدهم تفسيرا منطقیا لذلك الضوء الراقص بهذه الغرابة. 


وقد فقد هوكسبي إهتمامه بكرته المتوهجة لیقضي آخر سنين عمره في بناء تجارب أخرى مثيرة من أجل إسحاق نیوتن لاختبار نظریاته. لكنه لم یدرك أنه قد أطلق دون عمد شرارة الثورة الكهربائیة.


لم تلق آلة هوكسبي في البدایة اهتماما من قبل المجتمع العلمي آنذاك لكنها لاقت ترحیبا واسعا بين عروض التسلیة والإستمتاع لتصبح هذه العروض أكبر وأكثر في جمیع أنحاء أوروبا وأنجلترا مما دفع بعض المهتمين بالكهرباء والذین یسمون أنفسهم "الكهربائیين" للتساؤل عن مفاهیم أكثر عمقا بشأن التحكم في هذه القوة الغریبة وإمكانیة أن تتعدى حدود اللهو والإستمتاع.




2. حركة الكهرباء ومعیار تقسیم المواد





حركة الكهرباء ومعیار تقسیم المواد



بعد أن تعرض صانع أقمشة الحریر الناجح من مدینة كانتربري "ستیفن جراي" لحادثة أصابته بالعرج وأنهت حیاته المهنیة لتصيره عاجزا، إنتقل للعیش بمقام خيري للأیتام والشیوخ. 

كان ذلك في ثلاثینات القرن الثامن عشر. وأثناء عیش جراي، الشخص الذي كان قد اعتاد على رؤیة شرارات الكهرباء تنطلق من الحریر خلال عمله الذي فقده، في ذلك المیتم، وجد وقتا لممارسة تجاربه الكهربائیة.


بنى ستیفن جراي هیكلا خشبیا ومن قمته علق خشبتين بحبال الحریر وكان لدیه آلة كآلة هوكسبي، لإنتاج الكهرباء الساكنة. 

وفي حشد كبير من الحضور جلب أحد الأیتام الذین یعیشون هناك ليرقد على الخشبتين المعلقتين. وضع بعض رقاقات الذهب أمام الولد ومن ثم ولّد الكهرباء وشحن الفتى عن طریق قضیب كهربائي. حینها تعلقت رقاقات الذهب بأصابع الولد وقد زعم بعض الحاضرین رؤیتهم لشرارات تخرج من  أصابعه.


كان هذا استعراضا مدهشا لجمیع من شاهده، لكن بالنسبة لعقل ستیفن وفكره الفضولي، أوحى ذلك بشيء آخر له وهو أن الكهرباء يمكنها التحرك، من الآلة إلى جسم الولد وخلال یدیه ولكن الحبل الحریري یوقفها عن الحركة.


إستنتج ستیفن جراي أن الكهرباء قادرة على التدفق داخل الأشیاء لكن لیس خلال كل الأشیاء. وقد قاده ذلك إلى تقسیم العالم إلى نوعين من المواد وأسماهم العوازل والموصلات. 


فالعوازل تحمل الشحنات الكهربائیة خلالها ولا تسمح لها بالحركة مثل الحریر والهواء والزجاج بینما تسمح الموصلات للكهرباء بالتدفق خلالها كجسم الولد أو المعادن.


إن تقسیم المواد بهذا المعیار عملیة لازلنا نعمل بها حتى یومنا هذا ويمكن ملاحظة ذلك في الأبراج الكهربائیة، فالأسلاك هي الموصلات أما أجزاء الزجاج والسيرامیك فهي العوازل بين الأسلاك وجسم البرج المعدني والتي تمنع الكهرباء من التسرب من الأسلاك خلال البرج ومنه إلى الأرض.


بالرغم من أن تجربة غراي أدهشت كل من رآها لكنها عانت من مشكلة محبطة فهو لم یستطع الإحتفاظ بالكهرباء التي ولدها لفترة طویلة، إذ انتقلت من الآلة إلى  الولد ثم اختفت سریعا.





3. لایدن جار: أعجوبة القرن الثامن عشر


لایدن جار: أعجوبة القرن الثامن عشر


كان الكهربائیون في هولاندا مشغولين كنظرائهم البریطانين بمعرفة أكثر عمقا عن الكهرباء فبأحد مراكز البحث الكهربائي في مدینة لایدن كان البروفیسور "بیتر فان موشینبروك" الذي تعلم بالجامعة بخلاف هوكسبي وجراي، يحاول إيجاد طریقة لتخزین الكهرباء. 


وقد بدأ مزشینبروك بالتفكير بطریقة بسیطة، فلو أن الكهرباء تتدفق كالسوائل، كالماء مثلا، لربما سیكون بالإمكان تخزینها بنفس الطریقة التي تخزن بها المیاه.


ذهب موشینبروك إلى معمله محاولا صنع جهاز لتخزین الكهرباء فأخذ برطمانا زجاجیا وصب به بعض الماء ووضع به سلكا موصلا للكهرباء والذي كان یتصل بقمة الآلة الكهربائیة لهوكسبي ثم وضع البرطمان فوق عازل حتى لا تتسرب الشحنة وتبقى داخل البرطمان. 


حاول صب الكهرباء التي تولدت من الآلة داخل البرطمان عبر السلك الذي تصل نهایته عند الماء لكن محاولاته فشلت في تخزین الشحنة داخل البرطمان.


ثم صدفة في أحد الأیام نسي وضع العازل تحت البرطمان بل شحنه وهو يمسكه بیده. في النهایة وهو يحمل البرطمان بإحدى یدیه أمسك قمته المتصلة بالسلك بیده الأخرى فتعرض لصدمة كهربائیة قویة على الفور قذفت به بعیدا عن الأرض. 



إن القوة الكبيرة التي تولدت من البرطمان كانت أكبر من أي شيء تمت مشاهدته قبل ذلك وعلى نحو أكثر غرابة إستطاع البرطمان تخزین هذه الكهرباء لساعات وحتى لأیام. لذا ولشرف مدینة لایدن حیث قام موشینبروك باكتشافه أسموا ذلك "لایدن جار" أو "برطمان لایدن" وقد یطلق علیه في بعض المراجع العربیة "قارورة لایدن". 



لقد ذاع صیته في جمیع أنحاء العالم ففي عام 1745 وحتى باقي خمسینات القرن الثامن عشر فإن أصداء هذا الإكتشاف كان عالمیا إذ أصبح أحد أول المواضع العلمیة التي تنتشر أخبارها حول العالم. 



لكن بالرغم من أن تجربة لایدن جار أصبحت ظاهرة عالمیة لم یكن لأحد أدنى فكرة عن طریقة عملها حیث أن لدیك برطمانا يحمل فیضا كهربائیا والغریب أنك تحصل على صدمة أكبر إذا سمحت للشحنات بالتسرب عبر الأرض. 



لماذا تكون الشحنة أكبر إذا تسربت الشحنات؟ لم لا تكون الصدمة أكبر إذا تأكدت أن كل الشحنات الكهربائیة تبقى داخل البرطمان؟ هذا ما واجهه فلاسفة الكهرباء في منتصف القرن الثامن عشر.


لقد كانت الكهرباء بلا شك أعجوبة مذهلة، حیث تستطیع أن تصعق وتصدر شرارة وكذلك صار بالإمكان تخزینها ونقلها. أما عن ماهیتها وكیفیة عملها ولماذا تفعل كل هذه الأشیاء، لم یكن سوى غموض تام.



4. إكتشاف ماهیة البرق وتقسیم الكهرباء لشحنات موجبة وأخرى سالبة.



إكتشاف ماهیة البرق وتقسیم الكهرباء لشحنات موجبة وأخرى سالبة


البرق، شيء كان بالنسبة لكثير من الناس آنذاك ظاهرة خرافیة، لكن لیس بالنسبة للأمریكي "بینجامين فرانكلن" الذي تقول عنه كثير من المصادر أنه طير طائرة ورقیة موصولة بسلك معدني في عاصفة رعدیة كي یثبت أن البرق لیس سوى مجرد شحنة كهربائیة یتم تفریغها. لكن الحظ الأوفر في تجربته المهمة كان من نصیب شخص آخر.


في مایو من سنة 1752 بقریة صغيرة شمالي باریس بفرنسا تدعى "ماري لا فیلا" "جورج لویس لوكلير" وصدیقه "توماس فرانسوا دالیبار"، كانا قد شیدا برجا معدنیا، قضیبا معدنیا، طوله 12 مترا مثبتا في مكانه بثلاثة أعمدة خشبیة، مستقرا داخل زجاجة نبیذ فارغة. 



كانت الفكرة الكبرى لفرانكلين وهي أن البرج العالي سوف یلتقط البرق من السماء ويمرره عبر القضیب الحدیدي ويخزنه داخل الزجاجة بنفس فكرة لایدن جار وبذلك یثبت ماهیة البرق بالضبط. وفي الثالث والعشرین من مایوا هبت العاصفة وعند الساعة 12:20 دقیقة سمع دوي الرعد حیث ضرب البرق قمة البرج. هرول أحد المساعدین إلى الزجاجة فانتقلت شرارة ذات صوت عال بين المعدن وإصبعه لتحرق یدیه بشدة.



لقد كشفت الشرارة حقیقة البرق وماهیته لیصبح معلوما أنها نفس الكهرباء التي ولدها الإنسان. كانت تجربة فرانكلين مهمة جدا، بینت أن البرق ینتج الكهرباء أو ینتج منها وأنك تستطیع جلب هذه القوة إلى أسفل وأن الكهرباء هي أحد قوى الطبیعة التي تنتظر من یستفید منها.



بعد تجربته على البرق حول فرانكلين فكره إلى سؤال آخر . لماذا ینتج لایدن جار شرارة أكبر إذا ما تم حمله بالأیدي؟ لماذا لا تتسرب الشحنات كلها فحسب؟ 


أثناء تسطيره لتجربته رأى شیئا لم یره أحد من قبل وحیث أنه كان رجل أعمالخبيرا بمجال النقود فقد رأى الشبه بطریقة ما بين تصرف الكهرباء والنقود للبنك. فأوحیت له فكرة أنه يمكن للكهرباء أن تخزن بما أسماه الموجب والسالب.



بالنسبة له، كانت مشكلة لایدن جار مشكلة حسابیة فقد إعتقد أن كل جسم له مجاله الكهربائي وأن هنالك كمیة طبیعیة من الفیض الكهربائي حول هذا الجسم، لو أنها كمیة كبيرة ستكون موجبة ولو كانت قلیلة ستكون سالبة والطبیعة مصممة على أساس السعي نحو التوازن بين الموجب والسالب.



أدرك فرانكلين بذلك أن الكهرباء كانت عبارة عن شحنات موحبة تتدفق نحو إزالة الشحنات السالبة وعرف أن هذه الفكرة قد تفسر غموض لایدن جار إذ بینما یتم شحن البرطمان فإن الشحنات الكهربائیة السالبة تتدفق من خلال السلك إلى الماء.


 لو استقر البرطمان على العازل فإن كمیة صغيرة من الشخنات تخزن بالماء لكن إذا ما حمل البرطمان من شخص ما بینما یتم شحنه فإن الشحنات الموجبة تجذب خلال أجسادهم من الأرض إلى خارج البرطمان سعیا للإتزان مع الشحنات السالبة بالداخل لكن كلا من الشحنات الموجبة والسالبة تتوقف عن الحركة بسبب زجاج البرطمان الذي یعمل كعازل. 



ویستمر تكاثر الشحنات على كلا الجانبين ومن ثم فإن ملامسة قمة البرطمان المتصلة بالسلك بالید الأخرى یغلق الدائرة سامحا للشحنات السالبة بالداخل بالمرور عبر الید إلى الشحنات الموجبة بالخارج وأخيرا يحدث الإتزان. هذه الحركة للشحنات ینتج عنها بذلك صدمة كهربائیة كبيرة، وربما شرارة.


بالتفسير الذي قدمه فرانكلين لتعلیل تصرف قارورة لایدن بتلك الطریقة يمكن القول أن المكثف هو الجهاز الحدیث المكافئ لقارورة لایدن، فهو أحد الأجهزة الإلیكترونیة الموجودة بشكل كامل في كل مكان. لیسمح بالمرور السلس للشحنات الكهربائیة حتى في أحدث الدوائر الكهربائیة.


إن كشف الغموض عن قارورة لایدن والمعرفة بأن الضوء هو شيء من الكهرباء كانا أعظم نجاحات لفرانكلين. لكن حركة التجارة والأسواق كانت على وشك اكتشاف غموض جدید أكثر إرباكا. نوع جدید تماما من الكهرباء.



5. الكمیة الكهربائیة وشدة التیار: أول المفاهیم المبتكرة علمیا.


بغضون القرن السابع عشر والثامن عشر حدث انتقال كبير لأغنیاء العالم على امتداد القناة الأنجلیزیة، وازدهرت التجارة فالتوابل تأتي من الهند والسكر من الكاریبي والقمح من أمریكا والشاي من الصين. لكنها لم تكن مجرد تجارة فحسب فقد جاءت أشكال النباتات والحیوانات الجدیدة من كل أنحاء العالم إلى لندن.


وكان من ضمنها شيء ممیز جدا للكهربائیين. إنها تدعى سمكة الرعاد التي یقول الصیادون أن لسعتها قادرة على إسقاط رجل بالغ أرضا لكن بمجرد بدء الكهربائیين فحص لسعتها أدركوا أنها مشابهة بشكل غریب للصدمة التي تحدثها قارورة لایدن فهل تكون لسعتها حقا صدمة كهربائیة؟


الانقليس



حینما سمع عالم الأمراض "هنري كافیندش" عن سمكة الرعاد بدى مذهولا وأراد القیام بتجارب علیها. ولیستطیع معرفة كیف يمكن لكائن حي تولید الكهرباء قرر أن یصنع سمكته الخاصة الإصطناعیة وهي عبارة عن إثنين من قواریر لایدن على شكل سمكة تم دفنهم تحت الرمل وعندما یتم لمس الرمل تفرغ الشحنات معطیة صدمة كهربائیة. 


لقد أقنعته تجربته أن السمكة كانت بها كهرباء لكن لا تزال هناك مشكلة. فبالرغم من أن كلا من السمكة ونموذجه أعطیا نفس الصدمة الكهربائیة إلا أن السمكة الحقیقیة لم تعطي شرارة.


كان كافندش متحيرا كیف تكون من نفس نوع الكهرباء ولا یعطي كلاهما نفس النتائج. لقد قضى شتاء عام 1773 في معمله محاولا إيجاد الإجابة وفي الربیع جاءه الإلهام. كانت فكرته العبقریة أن یعطي إختلافا بين الكمیة الكهربائیة وشدة الكهرباء حیث أن السمكة قد ولدت نفس النوع من الكهرباء ولكن بدى أنها كانت أقل شدة. وقد كان هذا تحولا محوریا جدا وقد كانت لحظة حاسمة حين نشأت فكرتان مبتكرتان علمیا.



إن ما سماه كافندش بالكمیة الكهربائیة نسمیه الیوم بالشحنة الكهربائیة وما سماه الشدة الكهربائیة هو ما ندعوه الیوم بفرق الجهد أو الفولتیة.


يمكن من خلال هاذین المفهومين الجدیدین تفسير أن الصدمة من لایدن جار كانت ذات جهد عال لكن شحنتها أقل بینما السمكة كانت ذات حهد منخفض وشحنة كبيرة.


علم كافندش أن السمكة تنتج الكهرباء لكنه لم یعرف ما إذا كانت من نفس النوع التي تولدها الآلات الكهربائیة.

 فهل أن الصدمة التي تولدها السمكة مثل الصدمة التي تولدها الآلات الكهربائیة أم أنهما نوعان مختلفان؟ هل هي نوع من الكهرباء المصطنعة أم هي نوع خاص بالكائنات الحیة والتي توجد فقط بأجسامهم الحیة؟ كان هذا جدلا مثيرا قسم الآراء لعقود طویلة.



من هذا الجدل جاء اكتشاف جدید وهو أن الكهرباء لا تكون فقط في شكل صدمات أو شرارات لحظیة بل يمكنها أن تكون مستمرة وأن تولیدها المستمر سوف یدخلنا إلى عصر جدید بالكامل.




6. أول بطاریة كهربائیة وولادة مفهوم التیار الكهربائي


عند نهایة القرن الثامن عشر كانت مدینة "بولوجنا" الإیطالیة محكومة من كنیسة روما مما یعني أن الجامعات هناك كانت قویة لكنها ذات فكر محافظ في التفكير والإبتكار. كان أحد ألمع العقول بجامعة بولوجنا، إحدى أقدم الجامعات الأوروبیة، عالم التشریح "لويجي ألویزي جالفاني".


لكن بمدینة "بافیا" المجاورة والتي كانت جزءا من إمبراطوریة النمسا التي جعلتها قلب وعاصمة التنویر
الاوروبي حیث الأفكار اللیبرالیة المتحررة والرادیكالیة السیاسیة التي اهتمت بعلم الكهرباء الجدید، كان هناك كهربائي یدعى "ألیساندرو فولتا".


أفكاره لم تكن مقیدة بالأعراف الدینیة بخلاف جالفاني إذ آمن فولتا بالعقلانیة وبالحقیقة العلمیة إلا أن كلا الرجلين كانا شغوفين بالكهرباء فقد أحب جلفاني استخدامها في العلاج الطبي إذ كان یؤمن بأن الجسد یعمل بنوع من الطاقة الكهربائیة للكائنات الحیة وأن سائلا یتدفق من الدماغ خلال الأعصاب وصولا للعضلات حیث یترجم إلى حركة، ولقد قام بعدة تجارب لیثبت ذلك.


ضفدعة


كانت إحدى أشهر تجاربه أنه أحضر ضفدعة مسلوخة ومنزوعة الأحشاء، أطرافها الخلفیة مربوطين معا وهي تحوي فقط الأعصاب الحسیة. إستخدم آلة هوكسبي الكهربائیة لیولد الشحنات الكهربائیة الساكنة والتي ستتراكم وتمر خلال قضیب معدني إلى سلك نحاسي ثم قام بتوصیل السلك الحاملة للشحنة بالضفدعة وآخر بالوتر الخاص برجلها فارتعشت قدم الضفدعة بمجرد التلامس.


بالنسبة لجلفاني، ما حدث هو أن هناك شیئا غریبا خاصا موجودا داخل عضلات الكائن الحي قد تم تحفیزه بواسطة السلك الحامل للشحنات الكهربائیة وقد أسماه كهرباء الحیوان. 


إنها لیست كأي كهرباء. إنها شيء أساسي للكائن الحي. لكن بالنسبة لفولتا فإن كهرباء الحیوان كانت شیئا من السحر والخرافة وغير منطقیة فقد نظر إلى التجارب بشكل مختلف تماما عن جالفاني واعتقد أنها تكشف عن شيء جدید إذ رأى أن الرجل لم ترتعش كنتیجة لكهرباء من داخل الحیوان نفسه بل بسبب الكهرباء الصناعیة من الخارج.



شعر جالفاني بالغضب حینها من أفكار فولتا، فقد اعتقد أن فولتا خلط بين التجارب الكهربائیة و"المملكة الإلهیة". فبالنسبة له كان الإعتقاد بأن الكهرباء، شيء نفعله كما یفعله الإله وكما وضعه الإله داخل جسم الإنسان أو الضفدعة تدنیسا للدین وتعد للحدود. و متحفزا بأفكاره الدینیة، حصل جالفاني على سلسلة من النتائج بالتجارب التي اعتقد أنها تثبت خطأ فولتا. 


أثناء إحدى تجاربه، شنق ضفدعة على سلك حدیدي ورأى شیئا غير متوقع بالمرة. إذ أوصل سلكا نحاسیا بالسلك الذي تتعلق به الضفدعة ثم لامس الطرف الآخر للسلك النحاسي بالأوتار العصبیة للضفدعة واكتشف أن ذلك يحفز رجلها للحركة دون أي مصدر خارجي للكهرباء. 


أوصله ذلك إلى استنتاج بأن هناك شیئا ما داخل الضفدعة ینتج الكهرباء حتى لو كانت میتة والتي تستمر لفترة بعد موتها وأن الأسلاك المعدنیة تطلق هذه الكهرباء بشكل ما. بالنسبة له، لقد أثبتت هذه التجارب أن الكهرباء أتت من الضفدعة نفسها حیث علل أن عضلات الضفدعة بمثابة لایدن جار، تخزن الفیض الكهربائي ومن ثم تطلقه بقوة.



في الثلاثين من أكتوبر سنة 1786 نشر تلك الإستنتاجات في كتاب أسماه "كهرباء الحیوان" وأرسل نسخة منه إلى فولتا لكن هذا الأخير لم ترق له أفكار جالفاني عن كهرباء الحیوان بالمرة. لقد اعتقد أن الكهرباء تأتي من مكان آخر. لكن، من أین؟ هذا هو السؤال الذي عمل للإجابة علیه.


بدأ فولتا بحثه عن مصدر جدید للكهرباء وقد ركز بحثه حول المعادن التي استخدمها جالفاني لیحرك رجل الضفدعة وقد أثارت فضوله ظاهرة ما. وجد أنه إذا أخذ عملتين من معادن مختلفة ثم وضعهم على حرف لسانه ثم وضع ملعقة فضیة على قمة كلا العملتين فسیشعر بوخز خفیف وهو أشبه بالوخز الذي تشعر به أثناء تفریغ الشحنات من قارورة لایدن. إستنتج أن الكهرباء تنتج من تلامس المعادن المختلفة للعملتين والملعقة.



تبين بذلك أن إنحناء رجل الضفدعة في تجربة جالفاني لم یكن بسبب الكهرباء الحیوانیة بل لأنها تفاعلت مع الكهرباء من المعادن. كانت تلك الكهرباء التي أنتجتها العملات ضعیفة جدا فكیف بالإمكان جعلها أكبر؟ لكن فكرة ما أتت إلى ذهنه حینما راجع أبحاث العالم البریطاني هینري كافندش وخاصة أبحاثه الشهيرة عن سمكة الرعاد الكهربائیة.


حینما ألقى نظرة قریبة على سمكة الرعاد ودقق النظر للنمط المتكرر للتجاویف في ظهرها تساءل ما إذا كان هذا النمط المتكرر هو سر تلك الصدمة القویة التي تسببها. 

إفترض أن كل تجویف يمثل تجربة العملتين والملعقة حیث یولد كل تجویف كمیة صغيرة من الكهرباء وربما كانت هذه الصدمة القویة نتاج إدماج تلك الكمات الصغيرة للتجاویف.

 قرر بذلك أن یصنع نموذجه الخاص من سمكة الرعاد لقد استنسخها بتكرار نمط تجاویفها لكن باستخدام المعادن حبث أحضر لوحا من النحاس ووضع فوقها رقاقة بحمض مخفف ثم وضع معدنا آخر فوق كل هذا. 


إن ما فعله حتى هذه اللحظة هو تماما ما فعله جالفاني بالسلكين لكن فولتا كرر ذلك النمط فما كان یفعله هو بناء بطاریة من المعادن وقد عرفت تجربته تلك باسم البطاریة لكن ما فعله لاحقا كانت المفاجأة الحقیقیة. 

لقد جرب فولتا التجربة على نفسه بأخذ سلكين وملامسة طرفیهما لأطراف البطاریة وبأخذ الطرفين الآخرین وملامستهما بلسانه. هذه المرة كانت الوخزة أقوى بكثير عن العادة وكانت متواصلة. 


كانت تلك البطاریة الأولى التي تم صنعها. لم تعد آلة تولید الكهرباء كهربائیة ومیكانیكیة، لقد أصبحت كهربائیة كلیا لذا فقد أثبت فولتا أن آلة السمكة المزیفة تعمل بنجاح واستنتج بذلك أن تلامس المعادن المختلفة ینتج الكهرباء فاعتبرت الضربة القاضیة في صراعه مع جالفاني.

إن المفاجأة الكبرى بالنسبة لفولتا هي أن الكهرباء الناتجة من بطاریته كانت مستمرة وقد بدت كالماء الجاري في النهر وكما الحال بالنهر فإن الماء الجاري المتدفق یطلق علیه إسم تیار الماء لذا فالكهرباء المستمرة المتدفقة من البطاریة سمیت بالتیار الكهربائي.


بطاریة كهربائیة



بعد مرور 200 سنة على أعمال فولتا أخيرا فهمنا ماهیة الكهرباء حقیقة. فذرات المعادن كباقي الذرات لها شحنات كهربائیة وهي الإلكترونات التي تحوم حول النواة لكن بالمعادن تتشارك الذرات بالإلكترونات الخارجیة بطریقة فریدة بمعنى إمكانیة تحركها من ذرة إلى أخرى. 


لو أن هذه الإلكترونات تحركت بنفس الإتجاه وفي نفس الوقت فإن النتیجة هي حركة مستمرة للشحنات الكهربائیة. هذه الحركة المستمرة هي ما ندعوه بالتیار الكهربائي.



7. فجر عصر جدید

 خلال أسابيع قليلة من نشر تفاصيل بطارية فولتا إكتشف العلماء شيئا مذهلا لما يمكن عمله بها. كان أثرها على الماء العادي غير متوقع فالتيار المستمر للشخنات الكهربائية كان يفصل جزيئات الماء لمكونيه الأساسيين، غازي الأكسجين والهيدروجين. 


كانت الكهرباء بذلك تبشر ببزوغ فجر لعصر جديد تجاوزت فيه الظواهرَ الغامضةَ وبدأ استخدامها المفيد فعليا فعن طريق التيار الكهربائي المستمر يسهل استخلاص عناصر كيميائية جديدة وقد وضع ذلك الأساس لعلوم الكيمياء والفيزياء وللصناعات الحديثة.


لقد غيرت بطارية فولتا كل شيء فقد جعلت من مخترعها شخصية عالمية ومشهورة ومنحته القوة والثراء وكتقدير له سميت وحدة المعيار الأساسي للكهرباء على شرف اسمه، الفولت. غير أن البطارية لم تكن التحول المحوري في تاريخ الكهرباء بل ما لحقها.


في سنة 1808 بنى "هامبفري دايفي" أكبر بطارية في العالم والتي شغرت غرفة كاملة أسفل المعهد الملكي بلندن إذ كانت عبارة عن 800 بطارية منفردة متصلة معا. وفي غرفة قديمة أضيئت بتقنيات الشموع ومصابيح الزيت وصل دايفي بطاريته الكبيرة بقضيبين من الكربون وقرب طرفيهما. 


التيار الكهربائي المستمر من البطارية عبَر خلال الكربون ومن ثم إلى الفجوة بينهما مطلقا إضاءة مستمرة صاحبتها شرارة تعمي العيون. لقد خرج بذلك النور من قلب الظلام فمثلت تلك اللحظة نهاية عصر مظلم قديم وولادة عصر مضيء جديد. هو عصر الكهرباء.


تعليقات

التنقل السريع